top of page

الهوية المزدوجة (١): ثيون/ريك



المقدمة:

يُعرف مفهوم التفكير المزدوج بحمل فكرتين متضادتين في الآن نفسه، وهو مصطلح ظهر في مطلع الثمانينيات من جورج أوريل في روايته الشهيرة ١٩٨٤، وقد حولته إلى مفهوم الهوية المزدوجة، لإسقاطه على عالم الرواية، بحيث يحمل الشخص هويتين متضاربتين في نفس الوقت، والصراع بينهما ليس اعتيادي كصراع الأفكار الشائعة، بل هذا يعني وجود هويتين كلتاهما حقيقيتين بالنسبة للشخص، ويا له من صراع! في هذه السلسلة سأعرض ثلاث شخصيات من وجهة نظري تندرج تحت هذا النوع من الازدواجية، بدايةً مع ثيون/ريك، ومن ثم آريا/لا أحد، نهايةً عند جون سنو/ستارك. استثنيت من القائمة هويات مزيفة كجوفري باراثيون/لانستر، وجين پوول/آريا المزيفة، لأن لا يوجد صراع بهوياتهم، أو سانزا/ايليني لأنها فترة مؤقتة صقلت شخصية سانزا الماكرة ولم تخلق هوية جديدة بنفسها.



الرهينة:

ثيون جرايجوي، وريث آل جرايجوي، ورهينة آل ستارك، ابن بالون، وربيب إيدارد. مُظهِر للضحك والدعابات، ومُبطِن للشكوك والصراعات. متى بدأ صراع هويتي ثيون المتضاربتين؟ منذ خيانته لروب؟ أم عند استهزاء الحديديين منه؟ أم قبل كل تلك الأحداث؟ منذ اليوم الذي أخذوه من پايك وبدأت هوية ثيون الأخرى بالنمو بينما خبت هويته الحقيقية، حتى تساوت الكفتان تقريبًا، إذ عاش ١٠ سنين بين أهله ومثلها عند آسريه/ربيبيه

عشرة أعوام تقول، أي أن ستارك حظيَ بك مدَّةً مماثلةً لي - بالون جرايجوي

وصل الصراع لذروته عندما أبحر لپايك بأحلام الشاب الوردية، وطموحه الخيالي، وأهدافه الوهمية. أراد الجمع بين هويتيه عن طريق إثبات نفسه كحديدي في إسقاط لانسبورت وتصديق تحالفه مع روب بإتمام خطته

إنها خطَّتي. سأقودُ الهجوم بنفسي إذا أذنت لي، وكمكافأةٍ أطلبُ منك أن تمنحني كاسترلي روك لتكون مقرِّي الخاص، بَعد أن نأخذها من آل لانستر

لكن استُقبل بالجحد والضحك، والسخرية والتهكم، والاستهزاء بهويته الذئبية

انتظرتُ نِصف حياتي أن أعود إلى الوطن، فمن أجل ماذا؟ السُّخرية والاستخفاف؟

فبلغ غضبه لأقصى حد، وألقي اللوم عليه بذنوب لم يقترفها، وأصبح رمزًا لخسارة بالون، وكأنه هو من تسبب بأسره عند آل ستارك وليس فشل ثورة أبيه! الغضب يجعل الرجال حمقى كما قال الملك، ولذلك أنعش غضبه هويته الأصلية، ومرَق. حتى "خيانته" يبدو ألّا مفر منها من وجهة نظره، إذا أراد تقديم هوية على الأخرى فسيخون إحداهما، فإما الغدر بثقة روب، أو التملّص من أهله ودمه. استمرت هويته الذئبية بمطاردته بعد مروقه لتعيده، وتؤنبه، وتذكره بِعظم جريمته!

فكَّر ثيون في تفتيش جثَّتي الرَّجلين اللَّذين قتلَهما بنفسه بحثًا عن أيِّ جواهر تستحقُّ أن يأخذها، لكن الفكرة تركَت مذاقًا مُرًّا في فمه، وتخيَّل ما كان إدارد ستارك ليقوله، لكن تلك الفكرة أصابَته بالغضب، فذكَّر نفسه: ستارك ماتَ ويتعفَّن، ولا يعني لي شيئًا

فعليًا كان إيدارد ستارك مربيه الحقيقي، إذ عاش عنده بوعي أكثر من بالون، ولذلك تلاحقه عادات إيدارد إلى هويته الحقيقية

أوصى ثيون نفسه بأن يتحلَّى ببرود اللورد ستارك وتروِّيه

في وينترفيل هويتيه المتضاربتين ما زالتا ظاهرتين في حكمه وتعاملاته، فكان يستذكر تصرفات إيدارد

سأكونُ سيِّدًا صالحًا لكم كما كان إدارد ستارك

ويعدم بطريقته

كان فارلن مشتبهًا به محتملًا كغيره، فجلسَ ثيون قاضيًا وأعلنَ أنه مذنب وحكمَ عليه بالموت. حتى هذا كان تجربةً مريرةً، فإذ ركعَ قيِّم وجار الكلاب عند قالب الخشب، قال: «سيِّدي اللورد إدارد كان يَقتُل بيده دائمًا»، فكان على ثيون أن يضرب بالفأس بنفسه وإلَّا بدا ضعيفًا. وتطلَّب الأمر ثلاث ضرباتٍ. ند ستارك لم يكن يحتاج أكثر من ضربةٍ واحدةٍ لقطع رأس رجل

وبنفس الوقت يُعدم بالغرق لإرضاء الحديديين بدفع من هويته الحديدية

وبالنِّسبة لكايل فقد كان رجاله يتوقَّعون أن يمنح قُربانًا للإله الغريق، وقال للسِّپتون قبل أن يُلقوه في البئر: «لا أضمرُ لك شَرًّا، لكن لا مكان لك وآلهتك هنا الآن»

عندما هرب بران وريكون اتخذ الصراع منحنى آخر وتقمص ثيون هوية الوحش الوهمية مفضلًا إياها على هوية الأحمق

خيرٌ لي أن يخافني النَّاس من أن يسخروا مني

عندها توغل بالوحل عميقًا بلا رجوع وهو يسائل نفسه مذهولًا من تصرفاته

يتذكَّر أنه تساءلَ في أعماقه وقد وقفَ أمام الجثَّتين والذُّباب حولهما: كيف وصلتُ إلى هذا؟

بالرغم من إثبات هويته الحديدية بأخذ وينترفيل، وهروبه من الانتماء لآل ستارك وجحده لهم قدر الإمكان، إلا أن ما زال ضمير الهوية الذئبية حاضر إذ داهمته الكوابيس لتقض مضجعه

كلُّ أحلامه في الآونة الأخيرة باردة، وكلٌّ منها أبشع من سابِقه

ومن الأيقونية أنه في هروبه من آل ستارك عاد لهم، وفي اعتقاده بإثبات ميلاده الحديدي ابتعد عنهم

«الكراكن يَخرُج من البحر يا ثيون، أم أن سنين المعيشة وسط الذِّئاب أنسَتك هذا؟ قوَّتنا تَكمُن في سُفننا الطَّويلة»

فاختلط الحابل بالنابل، ولم يعد ثيون يعرف أين موقعه الحقيقي

شجرة ند ستارك، وأيكة ستارك، وقاعة ستارك، وسيف ستارك، وآلهة ستارك. هذا مكانهم لا مكاني. إنني من آل جرايچوي أبناء پايك، وُلِدتُ لأرسم الكراكن على تُرسي وأمخر عباب البحر المالح العظيم. كان عليَّ أن أذهب مع آشا

هوية الوحش الوهمية تبعتها معتقدات وهمية لم تكن في بال ثيون، فعندما سأله رودريك عن سبب خيانته أجاب ثيون

«لم تكن الأُنشوطة التي أحاطَت بعُنقي مصنوعةً من الحبال، هذا صحيح، لكني شعرتُ بها رغم ذلك، ولقد سحجَتني يا سير رودريك، سحجَتني حتى النُّخاع»

وقال في قرارة نفسه:

لم يكن قد أدركَ هذا تمامًا حتى هذه اللَّحظة لكن حين انسكبَت الكلمات من فمه تبيَّن حقيقتها من فوره

وكل هذه الأوهام التي ضاع ثيون وسطها ما هي إلا قطرة من الوهم الأكبر، والهوية التي كسرته، وهي لب الموضوع.


الانكسار:

وُلد ريك من أعماق الظلام، وبين السلخ والضرب، وفي معقل الخوف. يلازمه الرعب والتوجس من سيده رامزي إلى حد الوسوسة والجنون

ماذا لو أني فقدتُ عقلي في السِّجن وضاعَ نِصف عُمري؟ لكن لا، هذا سُخف. لا يُمكن أن مُدَّةً كتلك مرَّت، فما زالَ الصَّبيَّان صبيَّين، ولو كانت أعوام عشرة قد مرَّت لصارا رجلين بالغين. عليه أن يتذكَّر هذا. يجب ألَّا أسمح له بدفعي إلى الجنون. يُمكنه أن يأخذ أصابع يدَي وقدمَي، يُمكنه أن يفقأ عينَي ويَبتُر أُذنَي، ولكن لا يُمكنه أن يسلبني عقلي ما لم أسمح له

انسلخت هويته السابقة تمامًا، وانسلخ هو فعليًا، ولم يعد الشخص الذي كانه، حتى اسمه اختلف، ورُوّض على معرفة اسمه "الحقيقي"

اسمي. احتبسَت في حَلقه صرخة. لقد علَّموه اسمه، علَّموه إياه، علَّموه إياه، نعم

وقد أقنع نفسه بهويته الوهمية الجديدة، بعد آثار التعذيب والأهوال التي رآها، واعتبر حياته الآن منفصلة عن حياته السابقة

لم يُولَد بهذا الاسم، بل كان أحدًا آخَر في حياةٍ أخرى، لكن هنا والآن اسمه ريك. لقد تذكَّر

بعد أكثر من سنة من إنشاء هذه الشخصية من رامزي، وتربية حيوانه الأليف ليحل محل صديقه القديم (ريك)، أتى ريك الجديد مطواعًا له، وخاضعًا لأدنى الدرجات، وكأنه حل مكان ريك القديم فعلًا، واستدعاه رامزي لمساعدته بالحرب، تمامًا كما كان يفعل مع ريك الذي سبقه.

بدأ ريك حربه كما بدأها شبحه ثيون، ومرت الذكريات أمامه ضبابية معتمة كالأجواء التي يمشي بها، وأكّد أن ريك منفصل تمامًا عن ثيون، فقد ذكر ثيون بضمير الغائب

عندما سلكَ ذلك الرَّجل الآخَر هذا الطَّريق كان وراءه جيش، جيش الشَّمال الجرَّار في طريقه إلى الحرب تحت رايات عائلة ستارك بلونيها الأبيض والرَّمادي، أمَّا ريك فراكب وحده رافعًا راية سلام

حتى أدنى الأمور وأدق التفاصيل ترعبه، وملتزم باستخدام ضمير الغائب للتحدث عن ثيون، وارتعب عندما زلّ لسانه

سلكتُ هذا الطَّريق من قبل. كان خاطرًا خطرًا، وقد ندمَ عليه في الحال، وقال: «لا، لا، كان ذلك رجلًا آخَر، كان ذلك قبل أن تعرف اسمك»

أول مهام ريك العودة للوراء، لكنها عودة مختلفة، ليست عودة حقيقية وإنما وهمية، تقمّص ريك نفسه القديمة، وشخصيته المنسلخة، رغم أن هذا التقمص يُصوّر للبعض أنه استعادة لهويته الضائعة، إلا أن ريك مؤمن أنه دور سيلعبه مؤقتًا ويعود كما كان، يعود ريك، ريك، على قافية ركيك

أجابَ ريك كاذبًا: «أنا حديدي الميلاد». الفتى الذي كانه حديديُّ الميلاد، هذا صحيح، لكن ريك خرجَ إلى هذا العالم في زنازين (معقل الخوف) «انظُر إلى وجهي. أنا ابن اللورد بالون، أميرك». كان ليقول الاسم، إلَّا أن الكلمة احتبسَت في حَلقه. ريك، أنا ريك، على وزن حريك. لكن عليه أن ينسى هذا لفترةٍ قصيرة. يجب أن يتظاهَر بأنه عادَ أميرًا

بعدما نجح ريك بأول مهمة وسلم خندق كايلن لرامزي، كانت تأتيه أحاديث تذكره بهويته الضائعة، إذ لم يمر التقمص بلا أثر، وللحظة، بل ومضة خاطفة، لمعت هويته الحقيقية ومعدنه الحديدي، لكن ما إن ظهرت حتى توارت وراء الظلام والخوف المطبق على ريك، وعاد ريك ركيك

قال لنفسه بومضة فخرٍ مباغتة: إننا حديديُّو الميلاد، ولأقل من لحظةٍ عادَ أميرًا، ابن اللورد بالون، دم (پايك). على أن التَّفكير المحض خطر. عليه أن يتذكَّر اسمه. ريك، اسمي ريك، على قافية مسِّيك

استمر ريك بالهروب من هويته التي لاحت له قليلًا، وانغمس أكثر في ذله لسيده وإثبات هويته الوهمية الجديدة، إذ بات يعيش مع الكلاب، ويأكل الفتات من مائدة رامزي، وعندما استذكر أحداث مؤلمة من هويته القديمة، خاف وهلع، وعاد الألم يطعنه، وهرب من هويته وألمه في آنٍ واحد، هروبًا من عقاب سيده إذا عاد لهويته الأولى، وهروبًا من تأنيبه وندمه من ذنوبه التي اقترفها

وبران وريكون… غمسنا رأسيهما في القطران… كان رأسه يدقُّ. لا يُريد أن يُفكِّر في أيِّ شيءٍ حدثَ قبل أن يتعلَّم اسمه. ثمَّة أشياء أكثر إيلامًا من أن يتذكَّرها، أفكار تُداني سكِّين سلخ رامزي في الوجع

ولذلك دائمًا ما كان يردد أنه تعلم اسمه، وأن الحياة التي قبل ذلك في طي النسيان لا يعترف بها، وكونه تعلم اسمه (ريك) كأنه إيحاء أن (ريك) هو هويته الحقيقية، ولم يكتشفه حتى تعلمه، واختلط الحق بالوهم، والصدق بالكذب، والحديدي بالركيك، وأصبح رأس ريك يدق ويدق، ولا يحتمل الإبحار في كل هذه الفوضى، فاستمر بالهروب. في أثناء رحلته غاص ريك أكثر في الوحل واختفت قمة رأسه، وآخر معاقل هويته، عندما استبدل لغة علية القوم بالفلاحين، فقال (سِيدي) بدلًا من (سيّدي) لكن رووس بولتون بقصد أو بغير قصد، حاول يستعيد هويته الغائبة في الأعماق، وأراد انتشالها من الأوحال، وكان ذلك عندما قدّمه لليدي دستن كثيون سليل عائلة جرايجوي، فكاد ريك ينهار من الخوف، وطفق يردد ويولول أن ثيون مات في وينترفيل، ومحدثهم ريك الركيك. لا يريد العودة لتلك الآلام، لقد كان بمأمن في هذا الظلام، ورؤية النور تعميه، وتؤذيه، وتعيد له ذكريات لا يود استذكارها، وهنا تجلى جنونه، وأُثبت غسيل عقله تمامًا، واعترف رغم غياب رامزي أنه ريك

خرَّ على رُكبتيه مرتجفًا كورقةٍ في مهبِّ عاصفةٍ شتويَّة والدُّموع تنهمر على وجنتيه المشوَّهتين، وتابعَ: «لستُ هو، لستُ المارِق. لقد ماتَ في (وينترفل). إن اسمي ريك». عليه أن يتذكَّر اسمه. «ريك، على قافية ركيك»

الكراكن مولودًا من جديد:

ما إن يدخل النور فلن يدع مجالًا للظلام. هكذا بدأت هوية ثيون بالعودة على استحياء، رغم نفوره وهلعه منها، إلا أن المهام التي أوكلت إليه تقتضي تلبّس هويته الأصلية، بدايةً بمهمة الخندق التي مهّدت لعودته، ومن ثم المهمة التي تلتها، المهمة التي يتوشح ثيون بها علم أجداده ويستعيد بها بريق معدنه الصدئ. بدأت لمحات هويته باسم الفصل بذاته، إذ سمي (أمير وينترفيل) بدلًا من (ريك) وعاد لآخر محطات هويته الضائعة، المحطة التي فقد فيها نفسه، وشرفه، وعائلته، المحطة التي تخبط فيها لإثبات نفسه لكنه زاد بعدًا عن كل من أراد الانتماء لهم، بعيدًا عن الكراكن في البحر، وبعيدًا عن الذئب الذي غدر به، ثم بدأت علامات هويته -أو بالأحرى هويتيه- الضائعة بالظهور من جديد. عاد يسمي نفسه ثيون، لكن ما زال شائكًا وخائفًا، ومترددًا ومدافعًا عن سيده الوهمي رامزي، ولذلك نصح چين پوول بعدم عصيانه وحسّن من سمعته:

«يقولون إنه يحبُّ إيذاء النَّاس»
«لا يَجدُر بسيِّدتي أن تُصغي إلى هذه… الأكاذيب»
«يقولون إنه آذاك. يداك و…»
قال بفمٍ جاف: «اسـ… استحقَقتُ هذا. لقد أغضبته. يجب ألَّا تُغضِبيه. اللورد رامزي رجل… حليم وعطوف. أرضيه وسيُعامِلك بلُطف. كوني زوجةً صالحةً»

بعدما كان يرتدي أسمالًا باهتة، وخيش مهترئة، عاد يكسوه الكراكن الذهبي، وفي داخله يتلوّن بألوان آل ستارك، وهو يسلّم ابنتهم بصفته قريبها، فعادا نهري آل جرايجوي وآل ستارك بالتدفق فيه مرة أخرى، ونبضتا فيه هويتيه الضائعتين

ارتدى ثيون الأسود والذَّهبي، وثبَّت معطفه إلى كتفه دبُّوس غير متقَن الصُّنع لكراكِن من الحديد. لكن تحت قلنسوته شَعره أبيض خفيف، ولبشرته لون رمادي باهت كالهرِمين. من آل ستارك أخيرًا

الآن وقد عاد في منطقة الوسط بين ريك وثيون، بين جرايجوي وستارك، بين حاله قبل رامزي وبعده، تجلّت له عاهاته، فلم يعد الوسيم الرشيق، أو المبارز الجريء، فبداية التعافي من ريك لم يكن بلا ثمن، بل حتى لم يعد رجلًا، ولو كان له ذيل عندما طلبت آريا منه المساعدة لدسه بين قدميه

«لستُ… لستُ رجل أحد». كان رجل ليُساعِدها

الآن وقد عاد للمكان الذي انتهت به هويته السابقة وبدأت هويته الوهمية، استذكر سذاجته والتهم التي تلبسها أو ألقيت عليه

جعلتُ نفسي أمير (وينترفل)، ومن ذلك جاءَ كلُّ هذا. لقد تصوَّر أن النَّاس سيُغنُّون عنه مئة عامٍ ويحكون الحكايات عن جراءته، لكن إذا تكلَّموا عنه الآن فإنهم يَذكُرونه باعتباره ثيون المارِق، وحكاياتهم عن خيانته. لم تكن هذه داري قَطُّ. كنتُ رهينةً هنا. لم يُعامِله اللورد ستارك بقسوة، ولكن لطالما ظلَّ ظلُّ سيفه الفولاذي العظيم بينهما

وكل هذا لإثبات أصله، وللرسوّ على هوية واضحة محددة، لكن ما نتج إلا ما يبعده عن كل انتماءاته، والدخول بالفوضى والأوهام أكثر، ثم بدت تظهر له أشباح وينترفل

(وينترفل) ملأى بالأشباح في عين ثيون جرايچوي

استذكر أيامه الخوالي في ساحة وينترفيل، ورأى بعين الخيال تدريباته مع روب وجون، وانقطع المشهد فتبدل، ليرى نفسه أميرًا لوينترفيل، ينقلب على سكّان القلعة

تعلَّمتُ القتال في هذه السَّاحة. تذكَّر الأيام الصَّيفيَّة الدَّافئة التي قضاها في النِّزال مع روب وچون سنو تحت عينَي السير رودريك اليقظتين. كان ذلك وهو كامل يستطيع الإمساك بمقبض سيفٍ كأيِّ رجلٍ طبيعي. إلَّا أن السَّاحة تحمل له ذكرياتٍ سيِّئةً أيضًا. هنا جمعَ قوم ستارك ليلة فرار بران وريكون من القلعة

لذلك رغم معافاته قليلًا من ريك، إلا أن هناك تشوشات برأسه، فأصبح يطفو ضائعًا في الفضاء، لا يعلم أين مكانه الحقيقي، واختلطت عليه كل الأمور، ما بين هوياته الضائعة والوهمية، والرجل الذي كانه قبل إخصاءه، والضحوك الذي فقد أسنانه، والوسيم الذي شحب جلده، والشاب الذي ابيضّ شعره

وجدَ ثيون نفسه يتساءَل إن كان عليه أن يُصلِّي. هل ستسمعني الآلهة القديمة إذا صلَّيتُ؟ ليست هذه آلهته ولم تكن كذلك قَطُّ. إنه حديدي الميلاد، ابن (پايك)، إلهه إله الجُزر الغريق… لكن (وينترفل) تَبعُد فراسخ طويلةً عن البحر. لقد مضى عُمر كامل منذ سمعَه إله، ولا يدري من يكون وماذا يكون ولِمَ لا يزال حيًّا ولِمَ وُلِدَ من الأصل

ولو عرف، فكيف سيكون الشعور؟ أن تكون مستقر بمكان واحد وهوية واحدة، ولا تتجاذب من كل اتجاه

تساءلَ ثيون عن كنه ذلك الإحساس، أن يكون له موطن

وأجيبه بأن الاستقرار يحفظ العقل من الجنون، فالإيمان بهويتين متضادتين لا يتقبله العقل البشري، وكل معاناة ثيون متمحورة حول هاتين النقطتين، وكل أفعاله نتجت من هذه المعاناة، سواء بانقلابه واستيلاء وينترفل الجنوني، أو فقدان عقله مع ريك. مع هذه الأشباح أتت الذنوب تطارده من بعيد، وولدت من جديد كما ولد، كيف لا وقد عاد لنقطة البداية والنهاية في وينترفيل

شعرَ كأنه في عالمٍ سُفلي غريب، في مكانٍ ما بين العوالم لا يعرف الزَّمن، حيث يتسكَّع الملعونون الحزانى بعض الوقت قبل أن ينزلوا إلى الجحيم التي أفضَت بهم إليها خطاياهم. أنحن موتى جميعًا إذن؟ هل جاءَ ستانيس وقتلَنا ونحن نائمون؟ هل ستقوم المعركة أم أنها قامَت بالفعل وانتهَت بالهزيمة؟

لم يكد ثيون يستقر حتى أتى الأمر من سيده رامزي، فعاد الخوف يكتنفه، وبدأت تُخلع جلدة ثيون استعدادًا للبس ريك من جديد، فكان الرداء جاهزًا، بمجرد ما يخضع لرامزي من جديد، وقد امتلأه الرعب والذل؛ فقد عاد ريك، وانتهى الفصل بمناداته لنفسه بـ(ريك)

قال ريك لنفسه: ريك، ريك، على قافية ركيك، وانحنى يُلبِّي الأمر

لكن لباس ريك ملطخ بثيون، وتغيير الرداء الآن أصبح أسهل؛ لن ينتزع انتزاعًا، فقد مضت الآلام، وأصبح طريق الخلاص أقرب.

استمر بالعودة للوراء بينما يمضي للأمام، وهو في طريق التخلص من ريك، مرّ على أشباحه وماضيه، وتجاوز محطة (أمير وينترفيل) ليعود لما كانه قبل هذا، للمارق الذي غدر ثقة ستارك. أم إنها نفس المحطة لكن بمسمى آخر؟ كان يعتقد أنه أميرًا لوينترفيل لكن الناس يرونه بأنه مارق، فهل يرى نفسه كذلك الآن بعدما استوعب الأمر؟ استشعر ثيون من جديد الخواء الذي سببه ريك، وما آلت إليه الشنائع التي اقترفها

وإذا خرجَ فأين يذهب؟ أبوه ميت، ولا حاجة إليه عند أعمامه، و(پايك) ضاعَت منه. أقرب شيءٍ إلى الدِّيار تبقَّى له موجود هنا بين عظام (وينترفل). رجل خرِب وقلعة خرِبة. هذا مكاني

لكن في نفس الوقت مستمر في تقمص ريك ويساعد چين على تقمص آريا

أنا هنا ريك. يجب أن تتذكَّري يا آريا

قد يكون هذا الفصل بداية اعترافات ثيون، وبحثه عن الخلاص من ذنوبه، ومواجهة ماضيه المؤلم، إذ قادته خطاه للأيكة بلا سبب يعلمه، رغم أنها ليست آلهة الحديديين، فقط يريد إزاحة هذا الحمل ليتحرر من ماضيه

لماذا جئتُ هنا؟ ليست هذه آلهتي، ليس هذا مكاني. أمامه ترتفع شجرة القلوب كعملاقٍ شحاب، لها وجه منقوش وأوراق كأيادٍ دامية. تُغطِّي طبقة رقيقة من الجليد البِركة المجاورة لشجرة الويروود، وقد خرَّ ثيون على رُكبتيه إلى جانبها، وغمغمَ عبر أسنانه المكسورة: «أرجوكِ. لم تكن نيَّتي قَطُّ…». احتبسَت الكلمات في حَلقه، وأخيرًا استطاعَ أن يقول: «أنقِذيني امنحيني…». ماذا؟ القوَّة؟ الشَّجاعة؟ الرَّحمة؟

لوينترفيل أشباح وثيون أحدها، وقد تمشى بينها وهو يستذكر آخر جرائمه، يوم كان أميرًا مارقًا، بل وما قبل مروقه، عندما كان ذئبًا بين آل ستارك

هنا وجدوا بران بعد سقطته. كان ثيون يصطاد يومها في صُحبة اللورد إدارد والملك روبرت، بلا أدنى فكرةٍ عن الخبر الأليم الذي ينتظرهم في القلعة. تذكَّر وجه روب حين أخبَروه. لم يتوقَّع أحد أن يعيش الصَّبي المكسور. لم تستطِع الآلهة أن تَقتُل بران مِثلما لم أستطِع. وجدَه خاطرًا غريبًا، وخاطرًا أغرب حين تذكَّر أن بران قد يكون حيًّا ما زالَ

ونزل للسراديب فأحيت رهبة التماثيل الحجرية ميلاده الحديدي

رأى الملوك الحجر يَرمُقونه بأعيُنهم الحجر وقد التفَّت أيديهم الحجر حول مقابض سيوفهم الطَّويلة الصَّدئة. لا أحد من هؤلاء كان يكنُّ حُبًّا للحديديِّين، وهو ما أفعمَ ثيون بإحساسٍ مألوف بالخوف

هذه الرحلة الطويلة بين الأشباح ساعدت في إظهار هوية ثيون الحديدية من جديد رغم الآلام التي سببتها. ومن جهة أخرى، ظهرت أيضًا الهوية الغائبة التي بداخله، الهوية الذئبية الضائعة التي أراد إنكارها، وكما هو الحال مع الهوية الحديدية، البيئة من حوله وتكرار العودة للماضي، ساعدته باستعادة هوية آل ستارك، فقد قدّم آريا كونه قريبها، ودعته روان بأنه أخت آريا، وهو بنفسه شعر بنوع من الرضا عندما تلوّن بألوان آل ستارك أثناء الزفاف، والآن يستذكر ملوك الشتاء وكأنه أحد أفراد هذه العائلة

بدا كأن أعيُن الموتى الحجريَّة تتبعهم، وأعيُن ذئابهم الرَّهيبة أيضًا. حرَّكت الوجوه ذكرياتٍ خابيةً، وبلا دعوةٍ استعادَ بعض الأسماء، يهمسها صوت المِايستر لوين الشَّبحي. الملك إدريك لحية الثَّلج الذي حكمَ الشَّمال مئة عام، وبراندون السفَّان الذي أبحرَ إلى ما وراء مغرب الشَّمس، والذِّئب الجائع ثيون ستارك. سميِّي. واللورد بيرون ستارك الذي تحالفَ مع (كاسترلي روك) في الحرب ضد داجون جرايچوي سيِّد (پايك)

ومثلما اعترف بذنوبه الحديدية، اعترف هنا بحبه لآل ستارك وأمنية الانتماء لهم، رغم محاولته الجحد قبل ذلك

«أحبُّهم؟ إنني لم… لقد أخذتُ هذه القلعة منهم يا سيِّدتي، و…وأمرتُ بقتل بران وريكون ووضعتُ رأسيهما على خازوقيْن. لقد…»
«ركبت جنوبًا مع روب ستارك، وقاتلت إلى جانبه في (الغابة الهامسة) وعند (ريڤررَن)، ورجعت إلى (جُزر الحديد) كمندوبٍ عنه لتتفاوَض مع أبيك. إنني أعرفُ من تكون، وأعرفُ ماذا تكون. والآن أجِب عن سؤالي، لماذا تحبُّ آل ستارك؟» - باربري داستن
«إنني… أردتُ أن أكون واحدًا منهم…»

لكن الأشباح لا تتواصل إلا مع نفسها، فإن ساعدته حقًا فما هو إلا شبحًا مثلها، فهوياته قُتلت واحدة تلو الأخرى، لتولد بدلها هويات مصطنعة وشبحية

إنه حبيس هنا مع الأشباح، الأشباح القديمة في السَّراديب والأشباح الجديدة التي صنعَها بنفسه، أشباح ميكن وفارلن وجاينير وآجار وجلمار وزوجة الطحَّان عند (نهر البلُّوط) وابنيها والآخَرين جميعهم. ما صنعَت يداي، أشباحي، إنها هنا، وإنها غاضبة. ذهبَت أفكاره إلى السَّراديب والسُّيوف المفقودة

ها هو ثيون يتقدم بتؤدة للتخلص، وعادت لمحات من هويتيه الضائعتين في الفصل التالي، فبعد اعترافه بمشاعره نحو آل ستارك تلاشت أفكاره الوهمية السابقة ورأى نفسه كربيب لهم وليس رهينة

«كنتُ صبيًّا هنا قبل الحرب، ربيب إدارد ستارك».
قال بولتون: «كنت رهينةً».
«نعم يا سِيدِي، كنتُ رهينةً». لكنه كان بيتي. لم يكن بيتًا حقيقيًّا لكنه أفضل ما عرفتُ

عندما أتى نفير المعركة، ذهب ثيون للأيكة من جديد، خائفًا ونادمًا، أراد ثيون التخلص من العار الذي هو فيه، حتى ولو كان الموت ثمنًا

الموت أحلى نجاةٍ يُمكنه أن يأملها

فساعدته الآلهة -بران- على العودة لمواجهة ماضيه، وانتشاله من قاذورات ريك، ليقف من جديد بهويتيه الضائعتين، وإن كان وقوفًا هزيلًا

اللَّيلة بلا ريح، والثَّلج يَسقُط عموديًّا من سماءٍ سوداء باردة، لكن أوراق شجرة الويروود تحفُّ رغم ذلك، كأنها تهمس له: ثيون، ثيون

فكانت هذه الرسالة الأخيرة، والقشة التي انتشلت الكراكن من الأوحال

الآلهة القديمة، إنها تعرفني، تعرف اسمي. كنتُ ثيون سليل عائلة جرايچوي، كنتُ ربيب إدارد ستارك وصديقًا وأخًا لأولاده. خرَّ على رُكبتيه مبتهلًا: «أرجوكِ، لا أطلبُ إلَّا سيفًا. دعيني أموتُ وأنا ثيون لا ريك»، وسالَت الدُّموع على وجهه بدفءٍ مستحيل إذ أردفَ: «كنتُ حديديَّ الميلاد، ابنًا… ابنًا لـ(پايك) والجُزر»

الخلاص:

كنتُ ريك من قبل

أثبت ثيون أن الحديديين على حق، أن من يموت يبعث من جديد، لكن ليس أقوى وأصلب، بل أضعف وأوهن. خرج ثيون من ريك، وعاد لصراعه القديم، ستارك أم جرايجوي؟ حديدي أم شمالي؟ لكن صراعه القديم كان مسألة انتماء، وأما الآن فخلاص وانتهاء

تساءلَ ثيون إن كان سيرى أبهاء الإله الغريق المائيَّة أم أن شبحه سيَمكُث هنا في (وينترفل)

في طريقه للخلاص من ريك والهروب من أشباح وينترفيل، توقف في أيكة الآلهة كأنه استوعب للتو تساقط الثلج، فتحركت هويته الذئبية التي عادت من جديد وقالت:

الشتاء قادم

ومع هذا الشتاء هبت الهوية التي آلمته، ثيون قاتل الأقربين، ثيون المنقلب على قومه، ثيون المارق، وهي الهوية التي نُبذ من الكل بسببها، فقالت له روان

«لا يحقُّ لك أن تُردِّد كلمات اللورد إدارد، ليس أنت، إياك. بعد ما فعلت…يا قاتِل الأقربين»

اعترف ثيون بهوية الوحش والمارق الذي اختار لبسها، وهذا جزء من الخلاص والتحرر من الماضي

«لقد فعلتُ أشياء فظيعةً… خنتُ قومي وارتدَدتُ عنهم وأمرتُ بقتل رجالٍ وثقوا بي…»

لكن هناك عائق، وعقدة لم يفكها

«لكنني لستُ قاتِل أقربين»

وهذه المسألة معقدة فعلًا، وهي مبهمة لنا كقراء بقدر ما هي أوهام لثيون أو حقائق يريد الهرب منها، ولها وجهان:

أولًا: كونه يعاب بـ(قاتل الأقربين) فهذا يثبت هويته الشمالية، لأن بران وريكون يحتسبا هنا كأخوين له رغم الكر والفر بجحده وحبه لآل ستارك، فاعتُبر قريبًا لهم كأنهم من دمه

ثانيًا: قد يكون ثيون قاتل أقربين فعلًا، وابني زوجة الطحان هم ابنيه، والساخر هنا أنه استخدمهما ليحلّا محلّا بران وريكون، فنُعت بـ(قاتل الأقربين) قاصدين بران وريكون، بينما هو قاتل أقربين لأنه استخدم الحيلة البديلة، الحيلة نفسها التي كان يرددها لنفسه ليقنع ضميره بأنه لم يكن قاتل أقربين

اللذان قتلناهما كانا مجرَّد ابنَي طحَّان. لا يُريد ثيون أن تذهب أفكاره إلى أمِّهما. لقد عرفَ زوجة الطحَّان لسنين، وضاجعَها أيضًا

ثم إن هناك مسألة أخرى غير الهوية التي اعترف بها والتي جحدها، وهي الهوية التي ألقيت عليه باعتباره حارق وينترفيل، فتكوّرت هذه الثلاث أفكار في هوية شبه وهمية وشبه اختيارية، وما يريد ثيون إلا التخلص منها بأي شكلٍ كانت. أثناء رحلته للهروب ومضت له هوية ريك البشعة، وحدثته من الأعماق بواجباته تجاه رامزي، لكن الزمن ولى على هذه الوساوس، وقد استعاد نفسه أخيراً

هؤلاء العاهرات يسعين لاختطاف عروس رامزي، ولا يُمكن أن يسمح ريك بذلك… غير أن الآلهة القديمة عرفَته ودعَته بثيون. حديدي الميلاد، كنتُ حديدي الميلاد، ابن بالون جرايچوي ووريث (پايك) شرعًا

وها هو يودع أشباحه أثناء الهروب، فيمر على أطياف الراحلين، وذكريات الذئاب، وبقايا بيته

صعدتُ هذه السَّلالم ألف مرَّةٍ من قبل. في صِباه تعوَّد الصُّعود جريًا والنُّزول وثوبًا ثلاث درجاتٍ في المرَّة. في إحدى تلك المرَّات ارتطمَ بالعجوز نان مباشرةً وطرحَها أرضًا، لينال بعدها أسوأ ضربٍ تلقَّاه في (وينترفل) على الإطلاق، وإن كان أقرب إلى الرِّقَّة مقارنةً بالضَّرب المبرِّح الذي اعتادَه من أخويه في (پايك). على هذه السَّلالم خاضَ ضد روب عديد المعارك البطوليَّة بسيفيهما الخشبيَّين، وهو ما يعدُّ تدريبًا جيِّدًا، إذ علَّمهما بنجاحٍ صعوبة أن يُقاتِل المرء صاعدًا سلالم حلزونيَّةً ضد مقاومةٍ راسخة. أحبَّ السير رودريك أن يقول إن رجلًا واحدًا قويًّا يستطيع أن يصدَّ مئةً يُهاجِمونه من أسفل. لكن ذلك كان منذ زمنٍ طويل. كلُّهم موتى الآن. چوري، والسير رودريك العجوز، واللورد إدارد، وهاروين وهالن، وكاين ودزموند وتوم السَّمين، وآلن بأحلامه عن الفُروسيَّة، وميكن الذي أعطاه سيفه الحقيقي الأول، وحتى العجوز نان على الأرجح

ثم إنه تذكر أخوه، ليس جرايجوي، بل ستارك، كأنه استفاق من سبات طال أمده، وقد استوعب للتو الفراغ الذي تركه أخيه الحقيقي وصديق طفولته روب

وروب، روب الذي كان لثيون أخًا أكثر من أيِّ ولدٍ أنجبَه بالون جرايچوي من صُلبه. اغتيلَ في الزِّفاف الأحمر، ذبحَه آل فراي. كان يجب أن أكون معه. أين كنتُ؟ كان يجب أن أموت معه

وقبل خروجه بدقائق أفصح لأول مرة عن هويته العائدة، وبكل فخر قالها ولم يلق بالًا لمن يخاطبه، فطريق الخلاص يلوح بالأفق، وانتهى زمن ريك

«ريك، أهذا أنت؟»
كانت نيَّته أن يقول: نعم، لكنه سمعَ نفسه يردُّ: «ثيون جرايچوي»

بعد الهروب والنجاة، والابتعاد عن المأساة، ودخوله لبر الأمان عند الملك ستانيس وجيشه، أثبت ثيون مرارًا وتكرارًا هويته العائدة، فكما كان يردد (ريك) لنفسه سابقًا، الآن ردد (ثيون) لتذكير نفسه، والحفاظ على عقله، وإثبات هويته رغم ما صحبتها من تشوهات جراء التجربة البشعة التي مر بها، فقد بقى الرعب من سيده الوهمي السابق، وظهر عندما حذّر ستانيس منه

لا تناديه هكذا أبدًا!. رامزي بولتون، وليس رامزي سنو، ليس سنو أبدًا أبدًا، يجب أن تذكر اسمه، وإلا سيؤذيك

يجره ماضيه للأسفل لإعادته، ولن ينفك حتى يموت المسبب.


نهاية الصراعات:

مع عودة ثيون الناقصة، بقي صراعان لابد من نهاية لهما، الأول ماضيه مع رامزي والهرب من ريك، والثاني صراعه الأبدي بين ستارك وجرايجوي. فأما الأول فلن ينتهي إلا بانتهاء رامزي (وأعتقد ستبقى وساوس لديه حتى بعد مقتل رامزي) وما أجمله من نهاية لو انتهى بيده، كما فعلت سانزا في المسلسل، لكن مجال التوقعات هنا مفتوح وأتركه لكم. وأما الصراع الثاني والأهم، فقد عاد ثيون محمّل بانكسارات ريك، ونفسه خليطة من الشمال والحديديين، ويريد اختيار نهائي يموت به، بل يتمنى يموت للهرب من كل ما مر به

ينوي قتلي. الفكرة كانَت مريحةً بشكل غريب. الموت لا يخيف ثيون چرايجوي. الموت سيعني نهاية الألم

لكن ظهر احتمال جديد لتساؤل ثيون في وينترفيل عن طريقة نهايته، فقد ينتهي عند شجرة الويروود انتقامًا لأبناء إيدارد

افعلها بنفسك إذن يا جلالة الملك. خذه إلى الخارج عبر البحيرة إلى الجزيرة حيث تنمو شجرة الويروود، واضرب عنقه بذلك السيف المسحور الذي تحمله. هكذا كان ليفعلها إدارد ستارك. ثيون قتل أبناء إدارد ستارك، فأعطِه لآلهة إدارد ستارك، للآلهة القديمة. أعطِه للشّجرة

هنا سيُقدَّم لآلهة الشمال، آلهة ستارك الذين أرادهم، ولن يرى أبهاء الإله الغريق كما تساءل. أو قد يموت بطريقة أخرى كحديدي الميلاد. لكن قبل نهايته، أحقًا عليه أن يختار لينهي الصراع؟ دعونا نعود لاختياره السابق، عندما قدّم جرايجوي على ستارك. متى قدمه؟ عندما انغلقت أمامه السبل واستهزئ منه وفشلت خطته، لم يرد العودة لستارك فاشلًا كمبعوث (الحقيقة أنه لم يستطع بسبب الضغوط ومنع والده من خروج أي أحد من الجزر)، لكن ما طغى هنا أنه لم يرد الظهور بعين أبيه فاشلًا كوريث، لذلك رفض الفشل واختار أقرب السبل للمجد وغدر بستارك وتمادى بالخيانة لدرجة الجحد وإيهام نفسه بأفكار لم تكن موجودة كما رأينا في بداياته. ما يثبت سبب تقريره هو نيته السابقة للقرار، عندما أراد الجمع بين هويتيه لتحقيق هدف روب وإثبات سطوته الحديدية، فهل سيجمع بينهما مرة أخرى الآن؟ هذا ما حصل في المسلسل عندما قال له جون إنك ستارك وجرايجوي معًا، لكن أعتقد الاختيار هنا سيكون من نصيب هويته الشمالية عكس خياره السابق؛ لمساواة كفة خياراته، وليس لهذا فقط، بل إن جزءًا من صراعه متمحور حول الذنوب التي اقترفها تجاه ستارك، ولن يتخلص منها حتى يكفر عنها، لذلك أعتقد أن نهايته ستكون شبيهة بالمسلسل، أن يموت مقاتلًا أو مضحّيًا لهم، وما أجمل هذه الميتة إن سبقتها مغفرة منهم، كما شكره بران في المسلسل



الخاتمة:

قطعة جورج الفنية في قصة ثيون معقدة، والإبداع بها يكمن في كمية الهويات والصراعات التي التقاها ثيون وظل حبيسها حتى مماته، وقد يكون من الشخصيات القليلة التي مرت بعدة تحولات، بدأ ستارك ثم جرايجوي، ومر على ريك وهرب منه، والآن يعود للاختيار الأخير، ولا أعتقد أن هناك شخصية مرت بتحولات كثيون. ثم إن محطة ريك أظهرت لنا جانب درامي معتاد من جورج، بل في كتابة الشخصيات بشكل عام، وهو تحويل مشاعر المتلقي من كره الشخصية للتعاطف معها، كما حدث مع چايمي مثلًا، لكن ما يميزها حقًا أنها أظهرت لنا أفكار لم نرها في أي شخصية غيره، كما قال مارتن

أردت إظهار انحلال الشخصية والأشياء التي يمكن حدوثها نتيجةً لتعذيب كافي وتحطيم عقل وحرية الشخص

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page